زوجة الدّبلوماسي... قصّة مسلسلة لميّ كتبي (الجزء السادس)

by Nawa3em 11 Years Ago 👁 524

 الرباط
ها هي تقف وجهًا لوجه مع امرأة سلبتها كلّ شيء، حتى ولديها. حاولت أن تتماسك بكلّ ما أوتيت من قوّة، على الرغم من الوهن الذي احتلّ كلّ خليّة من جسدها وعقلها. "أريد ولديّ، أريد أن أراهما أرجوك" قالت للأخرى بكلّ ضعف وانكسار. سمع الولدان صوت والدتهما الحبيب وعندما جريا للقائها أوقفهما والدهما ومنعهما، أعادهما إلى غرفتهما. نظرات خوف حائر امتزج بدموع في عيونهما البريئة، تركهما ولم يأبه لبكائهما واستجدائهما، أغلق الباب عليهما كي لا يتركاها. نزل إلى الأسفل ليرى زوجته الأولى تبكي وتترجّى زوجته الثانية، أما تلك المرأة المتعجرفة فلم تتفوّه بكلمة، اكتفت بصمتها اللئيم ونظرات كلّها غلّ وتشفٍّ. لم تأبه لكرامتها عندما رأته، ارتمت عند قدميه باكية ترجوه أن يسمح لها برؤية الولدين، قالت بصوت خنقته العبرات "إذا كنتُ اقترفت ذنبًا فأرجوك أن تسامحني، عاقبني بأيّ شيء، لكنْ ولداي، لا تحرمني منهما، أتوسّل إليك". فما كان منه سوى أن ركلها بقدمه فارتمت على ظهرها على الأرض، وقفت وأخذت تضربه على صدره بانهيار هستيريّ. ابتعدت عنه ونادت ولديها، صعدت إلى الأعلى تبحث عنهما، جرى خلفها وجذبها بعنف من يدها، قال لها بنبرة تجبّر "من اليوم فصاعدًا لا مكان لك في حياتي أو حياتهما، وكلّ شؤونهما لا تخصّك". صرخت "لمَ كلّ هذا الحقد، لمَ كلّ هذا الغلّ، لم أؤذك يومًا، قل لي ما هو ذنبي..."، قاطعها "لا أريد مزيدًا من الفضائح ولا أريدك، أنت أصبحت عبئًا عليّ، ليس لديّ أيّ كلام آخر... اخرجي الآن من منزلي ولا تعودي أبدًا وافعلي ما شئت، وسأمضي بإجراءات الطلاق شئت أو أبيت". كلامه لجمها، صعقها، كل شيء أمامها أصبح أشدّ حلكة من ليل بهيم. استطاع الابن الأكبر كسر قفل الباب وركض وأخاه نحوها، عندما رأتهما انفجرت في نوبة بكاء حارّ، حضناها بكلّ شوق واحتياج، لكنّ والدهما فرّقهما عنها، سحبها إلى خارج المنزل، طلب من الحرّاس أن يأخذوها إلى مكان إقامتها، وأعطاهم تعليمات بطردها إذا ما عادت ثانية.

روما يناير 2007
عادت وصديقتها إلى روما، وهي منهارة تمامًا. كم شعرت بأنها غبيّة لأبعد الحدود، لامت نفسها، أهلها، تقاليد أضعفتها، ومجتمعًا جعلها ترى الدنيا من خلال عيني رجل، أشعرها بأنّها مخلوق لا قيمة له بلا ظلّ زوج. كابوس تلو كابوس يطاردها، اشتدّ انهيار أعصابها عندما وردتها ورقة طلاقها وخطاب بإخلاء المنزل. انتقلت إلى شقّة صديقتها، وهناك استسلمت للانهيار الكامل، نقص وزنها بشكل مخيف، لجأت لأساليب مدمّرة لتنسى ألمها، بدأت بشرب الخمر حتى أصبحت مدمنة، وعندما رأتها صديقتها تقترب من  الهاوية أودعتها في مصحّة لتتعالج، واتّصلت بوالدتها من دون علمها، أخبرتها بكلّ ما جرى بالتفصيل. وكم كان غضبها عظيمًا عندما علمت أنّ ابنتها أدمنت الخمر، ووالدها تبرّأ منها!
لم تشأ أن تخبر والديها ولا أخواتها بما كان يجري معها، ولم تقل إنها ذهبت إلى الرباط، وكانت تتحدّث معهم باقتضاب وتوهمهم بأنّها في أفضل حال، كانت تعرف في قرارة نفسها أنّهم لم يفهموا إحساسها، وكانت قد قرّرت أن تخوض كلّ حروبها وحدها.

روما أغسطس 2008
بشقّ الأنفس تماثلت للشفاء من إدمانها الذي أغرقها، وهو علم بكلّ ما جرى معها، علم بأمر إدمانها الخمر، فأمعن في حرمانها من ولديها، وأوهمهما بأنّ والدتهما قد تُوفّيت. كانت تصلها أخبارهما عن طريق خطيب صديقتها الذي يعمل شرطيًا في البوليس الإيطالي، فقد تمكّن من إنشاء تواصل مع أحد المشرفين في مدرسة لا روزي لمعرفة أخبارهما. سخّرت كلّ إرادتها للخروج من حالة الهذيان لتستعيد قوّتها وعقلها. قرّرت كتابة ما جرى معها، والخروج للعالم ورواية قصّتها، ستنتقم منه بطريقة حضارية، فكما سلبها حياتها ستسلبه سمعته. انكبّت على كتابة قصّتها، وعندما انتهت أرسلت نسخة لدور نشر في بريطانيا. أُعجب الناشر بجرأة طرحها وتعريتها لمشاعرها خاصة لامرأة آتية من الشرق الأوسط، فطلب منها الحضور إلى لندن.

قرية رول السويسرية/ لندن سبتمبر 2008
خبر موافقة دار النشر على شراء قصّتها منحها قوّة لم تكن تتخيّل أنّها تمتلكها، شعرت بفرح حقيقيّ. قبل سفرها إلى لندن مرّت إلى سويسرا وتمكّنت من رؤية طفليها من بعيد، بمساعدة المشرف الذي تعاطف معها، بكت بصمت وتمنّت لو أمكنها ضمّهما، لكنّها لا تريد أن تصدمهما، فهي في نظرهما ميتة، عزاؤها رؤية ابتسامتهما الفرحة على وجهيهما. لحقت بالطائرة التي ستقلّها إلى لندن وهي مطمئنّة.
ذهبت إلى موعدها مع مدير دار النشر، جلست أمامه، تحدّثت عن معاناتها التي نقلتها بحروفها الحزينة بمنتهى الشفافية والجرأة. لم تكن تعلم أنّ معاناتها النفسيّة والجسديّة ستجعلها تغوص في أعماقها بهذا الشكل، وكأنّ في داخلها بركانًا ينتظر لحظة الانفجار ليلقي حممه خارجها وترتاح. تحدّثت بكلّ حرية عن كبت رغباتها الحياتية والجسديّة، وكيف انصاعت لكلّ ما كان يُملى عليها حتى باتت لا تعرف نفسها، أدركت أنه على الرغم من أنّها كانت مطيعة ولم تعص أمرًا ودومًا كانت تقول "نعم" وداخلها كان يصرخ بـ"لا" آلاف المرات، لم تحصد سوى الألم والجحود، حتى أهلها تبرّأوا منها لأنها أدمنت الخمر، ورفضوا مساندتها، أصبحت في نظرهم عاصية وجالبة للعار وكلام الناس. ماذا جنت من الطاعة العمياء لمجتمع يرى الرجل إلهًا حتى لو ظلم وطغى، ويقذف المرأة بألف حجر إن طالبت بحقوقها وثارت لكرامتها. استعادت قوّتها بالكامل، نبذت ضعفها الذي أنهكها، دمّرت نفسها بنفسها وهم دمّروها؛ كفى دمارًا، سترمّم ما بقي منها، وولداها سيعودان إليها، ليس عليها سوى التحلّي بالإيمان والقوة.
بعد عدة لقاءات مع مدير دار النشر، شعرت باستمتاع غريب وهي تتحدّث معه، هل انجذبت لذلك البريطاني الأسمر ذي الأصول الفلسطينيّة؟ هل من حقّها أن تنجذب لرجل؟ أحبّت ذلك الإحساس الناعم الذي سرى في جسدها وأشعرها بقشعريرة محبّبة. هل حبّ المرأة للرجل شيء حقيقي؟ هل كانت تنكر فكرة الحبّ لأنّها تربّت على حرمانها من عواطفه؟!

يتبع...