بادن بادن... "عاصمة المصايف الأوروبية" إقصدوها ولو مرة!

بادن بادن... "عاصمة المصايف الأوروبية" إقصدوها ولو مرة!

Dyana Farhat by 2 Years Ago
 
نســـيم مشـــبع بأريج الزهور القادمة من الغابة السوداء، وشـــمس منيـــرة أطلـــت مـــن وراء الجبـــال، ومناظر بديعة لطبيعـــة عذراء لا بـــد وأن تطلـــق صيحات الفـــرح والتعجب عنـــد لقائها. هكذا إســـتقبلتني بادن بادن Baden- Baden، تلـــك المدينة الألمانية الصغيرة التي قرأت عنهـــا الكثير، وســـمعت عنهـــا الأكثر. ولكن عندما وجدت نفسي في حضرتها، قلت في قرارة نفسي: "لا شـــيء يفي بادن بادن حقها ســـوى الرحلة إليهـــا". فكل كلمـــات المديح والإطراء تصبح عاجـــزة أمام طبيعة هذه المدينة التي تتربع على قائمة أهم مدن ينابيع المياه المعدنية الدافئة في أوروبا.

الإستحمام في بادن

في ظلال الغابة السوداء في جنوب غربي ألمانيا، تتمادى بادن بادن المعروفة ب"عاصمة المصايف الأوروبية". وللصيف في ربوع هذه المدينة طعم خاص، ونكهة مميزة. فكل ما فيها يدعوكم للإسترخاء ولعيش أيام هنيئة. تدور بين أحيائها الراقية، ومنتزهاتها المطرزة بأروع أصناف الزهور والنبات، ومنتجعاتها الصحية التي إكتشف منافع مياهها المعدنية الدافئة الرومان القدامى منذ أكثر من ألفي عام. وفي حال تساءلتم عن سبب تكرار إسم بادن بادن مرتين، فما عليكم سوى ترجمته إلى العربية لشرح معناه الحقيقي ألا وهو"الإستحمام في مدينة بادن" The Baths in Baden. فكلمة بادن تعني أيضاً الإستحمام في اللغة الألمانية. والرحلة إلى بادن بادن تبقى غير مكتملة في حال عدم زيارتكم لمنتجعاتها الصحية التي منحت المدينة شهرة واسعة. ولذلك قصدت منتجع "كركلا" Caracalla Spa الذي ينبسط عند منحدر جبل أخضر في وسط المدينة لخوض متعة دلال النفس والجسد. بين أعمدته الرخامية وفي مسبحه الفيروزي عشت الإسترخاء الحقيقي، وإستمتعت بينابيعه التي يصل عددها إلى 12 ينبوعاً، وراقبتها وهي تتفجر من باطن الأرض لتستريح في مسبحه الداخلي المحاط بالزجاج. كل ما تحلمون به متوفر في رحاب "كركلا"، بدءًا من كهف للمياه الباردة والدافئة، إلى دوامة للماء، فضلاً  عن مسبحه الداخلي الذي يمتد إلى الخارج، وغرفة للسونا وفيها مكانين: الأول حار والثاني بارد. ومن المعروف أن المياه التي تصله لا تتأثر بعوامل الطبيعة الخارجية وتبقى محافظة على دفئها وحرارتها التي تتراوح من 50 إلى 68 درجة مئوية طوال العام. ولهذه المياه القدرة على معالجة الروماتيزم، تنشيط الدورة الدموية والعديد من الأمراض الجلدية. لم أنه عالم المياه المعدنية الدافئة في "كركلا" بل قصدت منتجع "فريديريكزباد" Friedrichsbad المجاور له والمشيد عام 1877. يحافظ "فريديريكزباد" على طريقة الإستحمام بالطريقة الإيرلندية - الرومانية التقليدية، والتي تشمل المرور في 17 مرحلة خلال الإستحمام والتي تبدأ بالإستحمام في المياه المنعشة، ثم تنظيف الجسم بالفرشاة والصابون على يد أحد العاملين في المنتجع للمباشرة في إختبار المراحل القادمة التي تقضي بالتنقل بين صالات "فريديريكزباد" التي تضم كل منها  حوض للسباحة ترتفع درجة حرارته أثناء التنقل من صالة إلى أخرى. جميع صالات هذا المكان التاريخي مميزة وتحمل سمات الماضي الجميل، ولكن يبقى أجملها الصالة التي تتوسطه والتي تتزين بقبة ضخمة تهب نورها  للتماثيل المتوزعة في أرجاء الصالة، وإلى المسبح الذي يطيب فيه تمضية متسع من الوقت لإكتساب الصفاء الذهني والتوازن الجسدي والعقلي.

سلام ورومانسية!

إسألوا كل من زار بادن بادن عن أحد أجمل شوارعها، فمن المؤكد أن تسمعوا الجواب نفسه: "لشتنتالر اليه" Lichtentaler Allee. فهذا الشارع المحروس بالأشجار العتيقة، والمزنر ببساط من العشب الأخضر سيؤثركم حتماً، وستعبرون في أرجائه أكثر من مرة سواء كنتم في طريقكم إلى أحد فنادق الخمسة نجوم المتناثرة في ربوع المدينة، أو أثناء قيامكم برحلة تبضع إلى أي من متاجره التي تكتظ بالمنتجات المحلية والعالمية، أو لربما وأنتم متوجهون إلى مطاعمه التي تقدم الأطباق اللذيذة والمتنوعة. أما أنا فعبرته عندما كنت قاصداً متحف "فابيرجيه" Museum  Fabergé الذي يجمع تحت سقفٍ واحد أروع القطع الذهبية والماسية والأحجار الكريمة التي كان يملكها ملوك وأمراء أوروبيون. في المتحف يتوه الزائر بين المعروضات الثمينة والتي تحمل جميعها توقيع "بيتر كارل فابيرجيه" الذي كان مصمم المجوهرات المفضل لدى الأباطرة الروس بين نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. فمع بريق ولمعان تلك التحف الجميلة المسجونة داخل الواجهات الزجاجية، تعرفت على تاريخ كل قطعة، ومصدرها، ومن كان يملكها. معروضات باهظة الثمن تتلاقى مع بعضها، أكثرها شهرة البيضة التي أعطت "فابيرجيه" شهرته الواسعة، فهو كان يصممها للأباطرة الروس ليقدموها لزوجاتهم كهدية بمناسبة عيد الفصح. ومن عالم "فابيرجيه" إنتقلت إلى مبنى "ترينك هول" Trinkhall الذي كان في السابق مركزاً لضخ المياه إلى المدينة. صعدت أدراجه، وهمت في روعة هندسته التي تزينها أعمدة كورنثية الطراز، وجداريات ملونة برسومات من أيام الرومان القدامى. ويقال أن مياه الشرب التي تتفجر من ينبوع يصب داخل المبنى لها منافع صحية عديدة. بادن بادن مدينة صغيرة المساحة، يحلو التنقل في أرجائها سيراً على الأقدام لإستكشاف كنوزها التاريخية ومعالمها السياحية التي تتفيأ تحت أشجارها المعمرة. وأخذني المشوار إلى صالة "فيشتبيل هاوس" Festpielhaus التي تعد أكبر صالة لحفلات الأوبرا والمهراجانات الموسيقية في ألمانيا، إذ بإمكانها إن تستوعب أكثر من ألفي شخص، وتتميز بتقنيات هندسة الصوت المتطورة والتي تضفي المتعة والإثارة على المسرحيات الموسيقية والعروض الفنية التي يقدمها أهم الفنانين العالميين. فأي عرض فني على خشبة مسرحها هو بمثابة تكريم وتقدير للمواهب الفنية والأسماء اللامعة. إختتمت نهاري في مبنى "كورهاوس"  Kurhausالذي يعرض نفسه كتحفة هندسية مفعمة بالسحر والجمال. في هذا المبنى الذي يحتضن كازينو بادن بادن الشهير عالمياً، يمكنكم تنظيم مؤتمراتكم أو إجتماعاتكم في صالاته الفسيحة التي يصل عددها إلى ثمانية. كما بإمكانكم الإستمتاع بوجبة عشاء في مطعمه المشرف على حديقة غناء ستشعركم وكأن الربيع لا يفك حصاره عن هذه الفسحة الملونة من المدينة.

شرفة الشمس!

هل سمعتم بشرفة الشمس؟ إذا كان جوابكم بالنفي، سنعبر معاً إلى منطقة "ريبلاند" Rebland الراقدة في جنوب غرب بادن بادن. وتختصر "ريبلاند" جمال الريف الألماني بحقوله، تلاله، ومنازله المتواضعة المغمورة بالهدوء والسكينة. فعندما يصلها السائح سيلمس مناظر طبيعية شبيهة بلوحات كبار الرسامين العالميين، وبالأخص عندما تلمحون كروم العنب التي تصطف بإنتظام شديد على التلال والروابي، لتدخل البهجة في القلوب والمتعة للنظر. يردد أهل المنطقة مقولتهم المعروفة: "الشمس تعشق ريبلاند"! وبالواقع فهي تتمتع بنور الشمس لفترات أطول من المناطق المحيطة بها، ولذلك تربتها غنية ومعطاء ولها الفضل في إنتاج مواسم زراعية خيرة. على تلة خضراء وفي مطعم مزخرف بالديكور التقليدي تناولت طبق الهليون الأبيض مع الكريما والبطاطا، لإنهي بذلك رحلتي إلى "شرفة الشمس". وتسلك السيارة طريقها نحو وسط بادن بادن، ونمر في طرقات محفورة في عمق الجبال لنعود من جديد إلى مدينة ينابيعها دافئة مثل قلوب أهلها. 
 
هذا التقرير من إعداد جان بيار حبيب، ألمانيا.
 
 
 

إضافة التعليقات

.